اضطراب الشخصية الحدية: فهمه ودعمه
اضطراب الشخصية الحدية (Borderline Personality Disorder – BPD) واحد من أكثر الاضطرابات النفسية تعقيداً وإثارة للاهتمام في علم النفس الحديث. ورغم شيوعه النسبي، إلا أن العديد من الناس يفتقرون إلى الفهم الصحيح له. بعضهم يخلط بينه وبين الاكتئاب أو القلق، وآخرون يعتبرونه مجرد “مزاج متقلب” أو “شخصية صعبة”. لكن الحقيقة أبعد من ذلك.
هذه المقالة تهدف إلى تقديم شرح مفصل عن اضطراب الشخصية الحدية: أسبابه، أعراضه، طرق تشخيصه، والعلاجات المتاحة. كما سنناقش كيفية دعم المصابين بهذا الاضطراب بطريقة إنسانية وصحية، سواء من طرف العائلة، الأصدقاء أو المتخصصين.
ما هو اضطراب الشخصية الحدية؟
اضطراب الشخصية الحدية (BPD) هو اضطراب نفسي مزمن يتميز بخلل في طريقة تفكير الفرد عن نفسه والآخرين، ما يؤدي إلى علاقات غير مستقرة، صعوبة في التحكم بالعواطف، اندفاعية، وخوف شديد من الهجر.
يشعر المصاب غالباً وكأنه يعيش على الحافة (ومن هنا جاءت التسمية "الحدية")، بين العاطفة والعقل، بين الحب والكراهية، وبين الرغبة في القرب والخوف من الرفض.
مدى انتشار اضطراب الشخصية الحدية
تشير الدراسات إلى أن اضطراب الشخصية الحدية يصيب حوالي 1.5% إلى 2% من السكان البالغين. قد يبدو الرقم صغيراً، لكنه في الحقيقة يمثل ملايين الأشخاص حول العالم. النساء أكثر عرضة للتشخيص بهذا الاضطراب، لكن الأبحاث الحديثة توضح أن الرجال أيضاً يعانون منه، وإن كانوا أقل وصولاً إلى العلاج.
الأعراض الرئيسية لاضطراب الشخصية الحدية
لكي نفهم اضطراب الشخصية الحدية جيداً، من الضروري التطرق إلى أعراضه الأساسية. هذه الأعراض لا تظهر بنفس الشدة عند كل الأشخاص، لكنها تشكل القاعدة التشخيصية الأساسية.
1. خوف شديد من الهجر
المصاب يعاني قلقاً مفرطاً من فكرة التخلي عنه، سواء من طرف شريك عاطفي أو صديق. هذا الخوف قد يدفعه إلى سلوكيات اندفاعية أو تمسك مبالغ فيه.
2. علاقات غير مستقرة
تأرجح دائم بين المثالية المفرطة لشخص ما (Idealization) ثم خيبة أمل كبيرة (Devaluation). فالعلاقات تميل إلى التطرف بين "كل شيء" و"لا شيء".
3. صورة ذاتية مشوشة
يعاني الشخص من هوية غير مستقرة: قد يغير أهدافه، ميوله، وحتى قيمه بشكل متكرر.
4. اندفاعية
تظهر في سلوكيات خطرة: الإنفاق المفاجئ، تعاطي المخدرات، علاقات جنسية غير محمية، أو حتى القيادة المتهورة.
5. اضطراب عاطفي شديد
مشاعر حادة تتغير بسرعة: من فرح شديد إلى غضب عارم، ومن حزن عميق إلى قلق خانق.
6. شعور دائم بالفراغ
إحساس داخلي بأن لا شيء يملأ الروح، شعور بالملل المستمر أو بعدم وجود معنى للحياة.
7. غضب غير متحكم فيه
نوبات غضب متكررة وصعوبة في السيطرة عليه، ما ينعكس سلباً على العلاقات.
8. سلوكيات إيذاء النفس
قد يلجأ البعض إلى إيذاء النفس أو التهديد بالانتحار كطريقة للتعبير عن الألم أو جذب الانتباه.
أسباب اضطراب الشخصية الحدية
العلماء لا يعرفون سبباً واحداً محدداً، بل هو نتيجة تفاعل معقد بين العوامل البيولوجية والبيئية والنفسية.
1. العوامل الوراثية
تشير الأبحاث إلى أن وجود قريب من الدرجة الأولى مصاب باضطراب الشخصية الحدية يزيد من احتمالية الإصابة.
2. خلل في كيمياء الدماغ
خصوصاً في المواد الكيميائية المسؤولة عن تنظيم العواطف مثل السيروتونين.
3. الصدمات في الطفولة
التعرض للإهمال، الاعتداء الجسدي أو الجنسي، أو فقدان أحد الوالدين قد يساهم في نشوء الاضطراب.
4. البيئة الاجتماعية
نشأة في بيئة غير مستقرة أو عاطفياً باردة قد تزيد من احتمالية الإصابة.
تشخيص اضطراب الشخصية الحدية
يتم التشخيص عبر أخصائي نفسي أو طبيب نفسي، اعتماداً على معايير الدليل التشخيصي (DSM-5). لا يوجد اختبار دم أو فحص دماغي مباشر، بل يعتمد التشخيص على:
مقابلات سريرية.
استبيانات نفسية.
ملاحظة السلوك.
العلاج المتاح لاضطراب الشخصية الحدية
رغم صعوبة الاضطراب، إلا أن العلاج ممكن، ونسبة كبيرة من المرضى يحققون تقدماً ملحوظاً.
1. العلاج النفسي (Psychotherapy)
يعتبر الأساس في علاج اضطراب الشخصية الحدية.
العلاج السلوكي الجدلي (DBT): الأكثر فاعلية، يساعد في تنظيم العواطف والسيطرة على الاندفاعية.
العلاج المعرفي السلوكي (CBT): يركز على تعديل أنماط التفكير السلبية.
العلاج المرتكز على الذهن (Mindfulness Therapy): يساعد على تقليل القلق وتحسين الوعي الذاتي.
2. الأدوية
لا يوجد دواء مخصص لاضطراب الشخصية الحدية، لكن بعض الأدوية قد تخفف من الأعراض المصاحبة مثل الاكتئاب أو القلق.
3. الدعم الاجتماعي
وجود شبكة دعم من الأصدقاء والعائلة يساهم بشكل كبير في التعافي.
دعم شخص مصاب باضطراب الشخصية الحدية
التعامل مع شخص مصاب قد يكون تحدياً، لكن هناك طرق فعالة:
التعاطف والفهم: عدم الحكم على المريض.
تشجيع العلاج: مساعدته على الالتزام بالجلسات.
تحديد الحدود: لحماية النفس من الإرهاق العاطفي.
التثقيف: فهم الاضطراب يساعد على التعامل بشكل أفضل.
استراتيجيات المريض للتعايش مع اضطراب الشخصية الحدية
ممارسة التأمل واليقظة الذهنية.
التمارين الرياضية المنتظمة.
كتابة المشاعر في دفتر يوميات.
طلب المساعدة عند الحاجة.
تجنب المخدرات والكحول.
الخرافات الشائعة حول اضطراب الشخصية الحدية
الخرافة: المصابون خطرون دائماً.
الحقيقة: معظمهم ليسوا عدوانيين تجاه الآخرين، بل تجاه أنفسهم.
الخرافة: لا يمكن علاج BPD.
الحقيقة: مع العلاج المناسب، يتحسن الكثيرون بشكل ملحوظ.
أهمية الوعي المجتمعي
التوعية حول اضطراب الشخصية الحدية تساعد في:
تقليل الوصمة الاجتماعية.
تشجيع المصابين على طلب المساعدة.
تحسين طرق الدعم من العائلة والمجتمع.
خاتمة
اضطراب الشخصية الحدية ليس حكماً بالإعدام على حياة المصاب، بل هو تحدٍ نفسي يمكن تجاوزه بالدعم والعلاج المناسبين. الفهم الصحيح هو الخطوة الأولى، ثم يأتي دور العائلة والأصدقاء والمتخصصين في توفير بيئة آمنة تساعد الشخص على النمو والتعافي.